فصل: فصل ذكر فيه صريح الطلاق وكنايته وما يتعلق بذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل ذكر فيه صريح الطلاق وكنايته وما يتعلق بذلك:

وَيَلْزَمُ الطَّلاقُ بالتَّصْرِيحِ ** وبالْكِنَايَاتِ عَلَى الصَّحِيحِ

(وينفذ الطلاق) فعل وفاعل (بالصريح) يتعلق به (وبالكنايات على الصحيح) يتعلقان بمحذوف عطف على الجملة قبله أي: وينفذ بالكنايات إلخ. ولذلك أعاد العامل فهو من عطف الجمل، وقوله على الصحيح راجع للكنايات فقط. والصريح ما كانت فيه الطاء واللام والقاف أو كان بلفظ الفراق أو التسريح لأن كل ما نطق به القرآن صريح فقال تعالى: {فطلقوهن} (الطلاق: 1) وقال أيضاً: أو سرحوهن} (البقرة: 231) وقال أيضاً أو فارقوهن} (الطلاق: 2) وقصره (خ) على الأول فقال ولفظه: طلقت أو أنا طالق أو أنت أو مطلقة أو الطلاق لي لازم لا منطلقة وتلزم واحدة إلا لنية أكثر، وأما الكناية فقسمان: ظاهرة وخفية، فالظاهرة هي اللفظ الدال عليه عرفاً وليس فيه صيغة الطلاق وما تصرف منه كما أشار لذلك (خ) أيضاً بقوله: والثلاث في بتة وحبلك على غاربك أو واحدة بائنة أو نواها بخليت سبيلك أو ادخلي، والثلاث إلا أن ينوي أقل إن لم يدخل بها في كالميتة والدم ووهبتك ورددتك لأهلك إلخ. ثم أشار للكناية الخفية أيضاً بقوله: ونوى فيه وفي عدده في اذهبي وانصرفي أو لم أتزوجك إلخ. وكذا يلزم أيضاً بما ليس بصريح ولا كناية إن نوى به الطلاق كقوله: أسقني ماء كما قال أيضاً وحرم بأي كلام نواه إلخ. وجعل ابن زرقون نحو أسقني ماء من الكناية أيضاً حيث نوى به الطلاق قال الشارح: قول الناظم وبالكنايات بلفظ الجمع يريد أقسامها الثلاثة على ما مر لابن زرقون. قال الشيخ (م): وهو ظاهر إلا أنه يبقى النظر في مقابل الصحيح ما هو ف الله أعلم بمراده.
ثم اعلم أنه في الصريح لا يقبل منه أنه لم يرد به الطلاق ولو مستفتياً، وكذا في الكناية الظاهرة، وإنما يشترط فيهما قصد النطق بذلك اللفظ، وإن لم يقصد به حل العصمة، فإن لم يقصد النطق بذلك بأن هذي لمرض أو لقنه بلا فهم معناه لم يلزم. انظر القرافي فإنه قال: القصد لإنشاء الصيغة والنطق بها لا أعلم في اشتراطه خلافاً قال: وأما القصد لإزالة العصمة باللفظ فليس شرطاً في الصريح اتفاقاً، وكذا ما اشتهر من الكنايات فراجعه إن شئت في شرح ابن رحال وابن غازي فإن فيه طولاً. وقال المتيطي: والطلاق يلزم باللفظ والنية فإن انفردت النية فالصحيح اللزوم لأن اللفظ عبارة عما في النفس، فإذا أجمع بقلبه على أنه قد طلق لزمه وهو قول مالك في سماع أشهب، وروي عنه أنه لا يلزم وإن انفرد اللفظ، فالصحيح أن الطلاق لا يلزم بذلك إلا في الحكم الظاهر لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات). وفي كتاب التخيير من المدونة ما ظاهره اللزوم وهو خلاف المنصوص. اهـ. لكن ما ذكره من اللزوم بمجرد النية حمله القرافي على الكلام النفسي وهو إنشاء الطلاق بقلبه فقط أي: من غير حركة لسانه به وهو المشار إليه بقول (خ) وفي لزومه بكلامه النفسي خلاف إلخ. فالصحيح في كلام المتيطي هو أحد المشهورين في النفسي كما أشار لذلك القرافي قائلاً: هو محل الخلاف، وأما مجرد القصد إليه من غير إنشاء بالقلب بل وقع القصد إليه كما تقصد العبادات فلا يلزم ولو صمم عليه إجماعاً قال: فالنية لفظ مشترك بين النفسي الذي هو الإنشاء بالقلب وبين مجرد القصد. اهـ. فقول الناظم بالصريح أي: اللفظ الصريح أو ما يقوم مقامه من الإشارة والكتابة كما قال (خ) ولزم بالإشارة المفهمة وبالكتابة عازماً إلخ. وكذا يلزم بالفعل أيضاً كنقل القماش كما أشار له (خ) أيضاً في التخيير والتمليك فاحترز باللفظ هنا عن مجرد القصد الذي ليس معه لفظ، ولا كلام نفسي لا عن الإشارة والكناية والفعل. هذا ما يتعلق بالصريح والكناية الظاهرة.
وأما الخفية فتقبل دعواه أنه لم يرد به طلاقاً وإذا نوى به الطلاق فينوي في عدده كما مر عن (خ) بخلاف الكناية الظاهرة، فإنه لا ينوي فيه ولا في عدده كما مر عنه أيضاً على تفصيل بين المدخول بها وغيرها. وانظر لو نوى بالخفية الطلاق ولم ينو عدداً فهل يلزمه الثلاث؟ وبه جزم ابن رحال في حاشيته هاهنا أو يجري على ما يأتي في قوله: وموقع الطلاق دون نية. وهو الظاهر. وقال ابن عرفة: وإن قال أنت طالق فهو ما نوى فإن لم ينو شيئاً فواحدة. اهـ. وقال في النهاية: فهذه الألفاظ يعني أنت طالق ونحوه يحكم فيها بواحدة نواها أو لم ينو شيئاً. اهـ. وهو قول (خ) وتلزم واحدة إلاّ لنية أكثر، وحينئذ فإذا نوى بالخفية الطلاق فإنه تلزمه واحدة إلا أن ينوي أكثر كما لو قصده بقوله: أنت طالق فليس عليه إلا واحدة أيضاً إلاَّ لنية أكثر، ويصدق في صفة هذه الواحدة من كونها بائنة أو رجعية كما ذكر المواق عن ابن رشد، وأنه إذا أراد بقوله: أنت طالق طلقة المباراة أي الطلقة البائنة فتلزمه البينونة ويصدق في ذلك ولا يرتدف طلاقه عليها إن جاء مستفتياً.
تنبيهات:
الأول: إذا قلنا تلزمه واحدة إلاَّ لنية أكثر فاختلف هل يصدق في إرادة الواحدة بغير يمين كما هو ظاهر (خ) وصححه في الشامل أو بيمين وشهره ابن بشير؟ وهما قولان على يمين التهمة، والمشهور توجهها كما مر، واقتصر في المعين في قوله: فارقتك على وجوب اليمين أنه ما أراد إلا واحدة قال احلولو: ومقتضى ابن بشير وغيره: أن اليمين تتوجه على القول به سواء قال: نويت واحدة أو لم أنو شيئاً.
قال ابن رحال في الشرح: وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يكن مستفتياً بدليل أن الحلف لأجل التهمة أي: لأن التهمة إنما تتطرق إليه عند المرافعة. وكذا تجب اليمين في الكناية الظاهرة لأنه ينوي فيها كلها أنه أراد بها الواحدة في غير المدخول بها، لكن بيمينه من غير فرق بين حبلك على غاربك والميتة وغيرهما من الكناية الظاهرة قال: ما عدا لفظ البتة فإنه لا ينوي فيها أنه أراد الواحدة قبل البناء على مذهب المدونة، وقيل: ينوي أيضاً وكلا القولين قوي. اهـ.
وأما المدخول بها فإنه لا ينوي في إرادته أقل كما في المتن. والفرق أن غير المدخول بها تبين بالواحدة والمدخول بها لا تبين إلا بالخلع أو بالطلاق الذي حكم به الحاكم في غير الإيلاء والعسر بالنفقة أو بالثلاث، وإذا فقد الأولان هنا تعين الثلاث قال: لكن إنما يظهر لزوم الثلاث فيها وعدم تصديقه في إرادته أقل حيث لم يجر العمل بالطلاق المملك، أما حيث جرى به وأنها تبين بغير عوض على ما عليه الناس الآن، فإذا قال: نويت بخليت سبيلك أو بميتة أو ببائنة طلاق المباراة أو الطلقة المملكة فيقبل قوله. اهـ. أي: لأن الناس اليوم يقصدون البينونة بدون الثلاث كما قدمناه عند قول الناظم، وفي المملك خلاف إلخ. وتقدم أنه إذا قال: أنت طالق طلقة بائنة فتلزمه واحدة على الأصح وعن المواق ما نصه: قد نصوا أن من طلق طلاق الخلع فهو بائن وهو طلاق زمننا فعليه صار حكم المدخول بها وغيرها سواء، وبهذا كان أشياخنا وأشياخهم يفتون. وقد نصب ابن بشير على هذا المعنى فانظره. اهـ. وبالجملة فإنما قال الإمام مالك بلزوم الثلاث في المدخول بها لأنه لم يكن في زمنه الطلاق المملك أي البائن بدون خلع ولا حكم ولا ثلاث، وأما حيث كانت الناس اليوم تستعمل البينونة بغير ذلك وهو الطلاق المملك فتصير المدخول بها وغيرها في التنويه، سواء قال معناه في المعيار عن أبي عبد الله الفخار وحينئذ فينوي مطلقاً مستفتياً أم لا. دخل أم لا. ولا يختص ذلك بالاستفتاء كما مر عن ابن رشد. ألا ترى أن الحرام ثلاث عند الأقدمين والعمل اليوم على لزوم الواحدة البائنة مطلقاً وما ذلك إلا لما قالوه من العرف وأن عرف الناس اليوم على قصد المملك.
الثاني: ذكر الشار (ح) ومن تبعه عند قوله: وموقع الطلاق دون نية. الخ أن العامة اليوم لا يعرفون الطلاق الرجعي، وعليه فإذا قال العامي لزوجته: أنت طالق فتبين منه بذلك لأنه لا يقصد غير البينونة، ولو سئل عن ذلك لقال: ما قصدت إلا أن لا تطالبني وأن لا حكم لي عليها ولذلك لا تطالبه بنفقة العدة، وإذا طلبتها لا يجيبها إلى ذلك لما في صميم عقله من أنه لا نفقة لها عليه، وإذا سألته عن حقيقة الرجعي المتقدمة في تقسيم الطلاق ما عرفها والنفوس لا تقصد ما لم يتقدم لها به أنس، وعليه فلا يصدق العامي في إرادته الرجعي مع وجود العرف بقصدهم بمطلق الطلاق البينونة إذ الحمل على العرف والعادة واجب كما في ألفاظ الكنايات لأنه إنما لزم فيها ما ذكر لأجل العرف كما يأتي، وتأمل قول المواق: طلاق الخلع هو طلاق زمننا إلخ. وقد قالوا إن الأحكام إنما تترتب على عرف التخاطب أعم من أن يكون لغوياً أو غيره، وهذا أمر معهود في هذا الباب وما في حاشية ابن رحال عند قوله: وفي المملك خلاف إلخ. وقاله في الشرح أيضاً عند قول المتن في الخلع وبانت ولو بلا عوض إلخ. مما يقتضي خلاف ما قاله الشارح، ومن تبعه لا يعول عليه لأن الكلام فيما إذا كان جل العامة لا يعرفون إلا البائن، وإذا كان كذلك فعرفهم حينئذ هو قصد البينونة بمطلق الطلاق أي: فتلزمه وإن لم ينوها ولا تكون له رجعة عليها ولا يصدق في إرادته الرجعي وهو لا يعرفه كما لو ظن أن البتة واحدة. وقال: أردتها فإنه لا يصدق مع كون العرف عندهم أن البتة ثلاث، وقول ابن رشد: هل الحمل على اللفظ أو على ما يعلم من قصد الحالف وهو الأشهر الأظهر إلخ. لا شاهد له فيه لأن اللفظ هنا لا دلالة فيه على الصفة من كونها بائنة أو رجعية، وإنما يعلم ذلك من قصد الحالف وإن لم يقصد شيئاً فيحمل على العرف، وأيضاً فإن ابن رشد لم يقل ذلك فيما نحن فيه بل موضوعه في شيء آخر كما يعلم بالوقوف عليه في كتاب الصداق من ابن عرفة، واللفظ هاهنا لا يقتضيه بفحواه البينونة ولا عدمها وعلى تسليم اقتضائه الرجعة، فإنما يقصد الناس إلى أعرافهم فقول ابن رشد وهو الأشهر إلخ. شاهد لما ذكرناه، وبالجملة فإذا قال: أنت طالق للمدخول بها ونوى به البينونة لزمته لقول المتن إلا لنيّة أكثر، ولقول ابن عرفة فهو ما نوى إلخ. وإن لم تكن له نية فيحمل على العرف فإذا كان عرفهم في مطلق الطلاق أو شيء من تلك الكنايات البينونة فقط عمل على ذلك، ولا فرق في ذلك كله بين قوله عليه اليمين أو الحرام أو الأيمان اللازمة أو هي بتة أو حبلها على غاربها وغير ذلك من الكنايات وصفات الطلاق من كونه بائناً أو رجعياً، فالحمل في ذلك كله على العرف عند فقد النية لأن العرف من المخصصات بعد النية كما في المتن، ولذا قال القرافي في هذه الألفاظ: من خلية وبرية وحبلك على غاربك أو حرام إنما لزم فيها ما ذكر لعرف سابق، وأما الآن فلا يحل للمفتي أن يفتي فيها بما ذكر إلا لمن هي عرفه إلخ. ونقله المواق وغيره وعليه فمن قال عليه اليمين وهو لا يعرف إلا الطلاق البائن وعرف بلده ذلك لزمته طلقة بائنة ولا يفتي بالرجعي لأنه لا يعرفه، ومن قال بلزوم الرجعي فيه إنما ذلك على عرف وقتهم، وبهذا كنت أفتي الناس بلساني في هذه الأزمنة ولو طلب مني الكتابة لكتبت له ذلك، وكان غيري لا يساعدني.
الثالث: انظر هل لا عبرة بالظن المخالف للعرف فإذا ظن المطلق أن قوله: أنت طالق تقع به البينونة والعرف بخلاف ذلك فإنها لا تقع عليه حيث لم ينوها عند التلفظ إذ العبرة بالعرف، ويدل لذلك أنهم أناطوا الأحكام بالنية والعرف لا بالظن والاعتقاد، وقد يظن الإنسان أو يعتقد حكماً ولا ينويه عند التلفظ وهو إذا لم ينوه يرجع فيه للعرف أو يقال تقع عليه البينونة إذ هو لا يقصد غير ظنه فتأمل. وأما العكس كما لو ظن أنها لا تبين بلفظ البتة مثلاً، وأنها رجعية أو أنها واحدة بائنة والعرف أنها ثلاث فلا إشكال أنه يلزمه ما به العرف ولا ينفعه ظنه كما مر. وقد قال ابن رحال في باب القضاء عند قوله: أو جعل بتة واحدة إلخ. الراجح لزوم الواحدة البائنة في لفظ البتة وما ذاك إلا للعرف.
الرابع: قال البرزلي، قال ابن يونس في كتاب الطلاق: ولو مسها بيده أو ضربها وقال: أردت الطلاق لم تطلق إجماعاً. القرافي: وهو مشكل على الطلاق بمجرد النية فإنه نية وفعل. اهـ. وتأمله أيضاً مع ما مر من أنه يلزم بالفعل ثم إن الناظم لم يذكر من أركان الطلاق إلا اللفظ، فيفهم منه أن الطلاق لا يلزم بمجرد النية من غير لفظ أصلاً ولا ما يقوم مقامه من كتابة أو فعل على ما مر، وهو كذلك عند الأكثر. ابن عرفة: وفي لغو الطلاق بمجرد النية الجازمة روايتا الأكثر وأشهب. اهـ. وانظر الفرق بين الكلام النفساني ومجرد القصد عند قوله فيما يأتي: ومالك ليس له بملزم إلخ. ومن أركانه أيضاً القصد أي قصد التلفظ بالطلاق أو الكناية مع معرفة معنى ذلك لا أن لم يقصد بل هذي كمرض أو لقن بلا فهم كما مرّ. ويبقى النظر فيما إذا لم يكن اللفظ من الكناية ولا من الصريح وقصد التلفظ به، وهو يظن أنه يلزم فيه الطلاق، ولكن لم ينو به وقت التلفظ طلاقاً ففي البرزلي عن تعلقة. ابن العطار: إن الشخص إذا قال: كل ما أعيش فيه حرام وهو يظن أن ذلك طلاق فليس يضره جهله بأن ذلك ليس بطلاق ولا يكون طلاقاً إلا أن يقصد أنها طالق بهذا اللفظ فيكون طلاقاً كما لو قال: ادخلي الدار يريد به الطلاق. اهـ. وهذا إذا لم يجر العرف باستعمال ذلك اللفظ في الطلاق وإلاَّ لزمه الطلاق، ولو لم ينو به كما مرّ، وكما ذكره البرزلي في هذا اللفظ بعينه أيضاً. وذكر (خ) قولين فيما إذا قال: كل ما أعيش فيه حرام إلخ. وظاهره جريانهما كأن يظنه طلاقاً أم لا. وثالثها المحل الذي هو العصمة المملوكة تحقيقاً أو تقديراً كقوله لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق أو إن دخلت الدار ونوى بعد نكاحها فيلزمه لا إن لم ينو ذلك فلا شيء عليه. ورابعها: الأهل أي الزوج، وشرطه أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً فلا يصح ولا يلزم طلاق الكافر ولا الصبي ولا فاقد العقل بجنون أو إغماء إلا أن يكون بسكر حرام أدخله على نفسه، فيلزمه على ما أشار له بقوله:
وَيَنْفُذ الْوَاقِعُ مِنْ سَكْرَانِ ** مُخْتَلِطٍ كالْعِتْقِ والأيمَانِ

(وينفذ الواقع) فعل وفاعل (من سكران) يتعلق بالواقع (مختلط) صفة لسكران (كالعتق) الكاف للتشبيه لا تتعلق بشيء كما مر (والأيمان) معطوف عليه، والتقدير وينفذ الطلاق الواقع من سكران مختلط عقله فيصيب مرة ويخطئ أخرى لكونه معه ضرب من التمييز كما ينفذ العتق الواقع منه، والأيمان الصادرة منه بطلاق أو غيره كما هو ظاهره، وظاهره أيضاً أنه ينفذ منه م ذكر ولو سكر بحلال كشربه لبناً حامضاً يعتقد أنه لا يسكره أو دواء ولو علم بإسكاره وليس كذلك فإنه لا يلزمه طلاق كما في الشامل، ولو كان معه ضرب من التمييز فيقيد كلامه بغير الحلال. ومفهوم مختلط أنه لو كان مطبقاً لا يميز الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة لا يلزمه وهو كذلك اتفاقاً قاله ابن رشد. قال: وتحصيل القول في السكران أنه يلزمه الجنايات والعتق والطلاق والحدود، ولا تلزمه الإقرارات والعقود. اهـ. وعليه قول ابن عاشر:
لا يلزم السكران إقرار عقود ** بل ما جنى عتق طلاق وحدود

اه.
فلو تنازعا في كون السكر بحلال أو بحرام فقوله بيمينه إن لم تقم قرينة على صدقه لأن الأصل عدم تعمد الحرمة وإن قامت قرينة على الصدق فلا يمين فإن قامت قرينة بكذبه فالقول للمجنى عليه والعبد والزوجة، ثم إن المجنون يلزمه طلاقه في حال إفاقته كما في المدونة لا في حال إطباقه، وإذا هذى لسكر بحلال فطلق وادعى أنه كان لا يضبط ما يقول وشكت البينة في ضبطه وعدمه، فالظاهر أنه يجري فيه ما ذكروه فيمن هذى لمرض لأن السكران مريض فراجع الشراح عند قول (ح) أو هذى لمرض والله أعلم.
تنبيه:
فهم من قوله: سكران أن الغضبان يلزمه طلاقه بالأحرى لأنه مكلف بالصلاة ونحوها إجماعاً، ومخاطب بأداء ذلك حال غضبه بخلاف السكران، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قول الناظم: هب أنها في كلمة قد جمعت.
وَمِنْ مَرِيضٍ ومَتَى مِنَ المَرَضْ ** مَاتَ فَلِلزَّوْجَةِ الإرْثُ مُفْتَرَضْ

(ومن مريض) معطوف على سكران (ومتى) شرط (من المرض) يتعلق بقوله (مات) وقوله (فللزوجة) خبر عن قوله (الإرث المفترض) صفة. والجملة جواب الشرط ودخلت الفاء في الجواب لكونه لا يصلح أن يكون شرطاً.
ما لَمْ يَكُنْ بِخُلْعٍ أَوْ تَخْيِيرِ ** أَوْ مَرَضٍ لَيْسَ مِنَ المَحْذُورِ

(ما) ظرفية مصدرية (لم يكن) صلتها واسمها ضمير الطلاق الواقع من المريض (بخلع) يتعلق بمحذوف خبر يكن (أو تخيير) معطوف عليه (أو مرض) معطوف على خلع أيضاً مدخول للباء (ليس) فعل ماض ناقص واسمه ضمير المرض (من المحذور) يتعلق بمحذوف خبر، ويحتمل أن تكون من زائدة لا تتعلق بشيء وهو أولى، والمعنى أن طلاق المريض مرضاً مخوفاً وتمليكه وتخييره وخلعه لازم له كالصحيح، وإنما يفترقان في الإرث ففي الخلع والتخيير لا ترثه لأن الفراق جاء من قبلها وفي الطلاق ترثه إن مات من مرضه قبل ظهور صحته كان الطلاق بائناً أو رجعياً قبل الدخول أو بعده، ولو صادف آخر الثلاث كما هو ظاهر النظم، وظاهره أيضاً ولو كانت يمينه في الصحة وحنث بها في المرض كان الحنث بسببها كحلفه وهو صحيح بطلاقها إن دخلت الدار، فدخلت وهو مريض أو بسببه كحلفه ليقضين فلاناً حقه في يوم كذا فحنث وهو مريض، وظاهره أيضاً ولو طال مرضه حتى خرجت من عدتها وتزوجت أزواجاً وهو كذلك في الجميع، ثم إن ما ذكره الناظم من عدم إرثها في الخلع والتخيير هو تخريج اللخمي في الخلع. ورواية زياد في التمليك والتخيير وذلك ضعيف لأن القول المخرج لا يعمل به في قضاء ولا فتوى، وإنما يذكر تفقهاً وتفنناً فقط قاله (ح). ولأن رواية زياد مخالفة لمذهب المدونة، ولذا درج (خ) وغيره على وجوب الإرث لها فقال: ونفذ خلع المريض وورثته أي: ولو من المال الذي خالعته به كمملكة ومخيرة فيه ومولى منها وملاعنة أو أحنثته فيه أو أسلمت أو عتقت أو تزوجت غيره وورثت أزواجاً وإن في عصمة، وإنما ينقطع بصحة بينة إلخ. وفهم من قوله: ومتى من المرض مات إلخ. أنها إذا ماتت هي لا يرثها وهو كذلك إن كان طلاقها بائناً، وأما الرجعي فيرثها إن ماتت قبل انقضاء عدتها واحترزت بقولي مخوفاً من غير المخوف كسعال وإقعاد ورمد ووجع ضرس وجذام وفلج يقبل مع ذلك ويدبر ويتصرف لنفسه فإنها لا ترثه لأنه في حكم الصحيح كما أشار له بقوله: أو مرض ليس من المحذور إلخ. فقوله: ومن مريض أي مرضاً مخوفاً وهو ما حكم الأطباء بكثرة الموت به كالسل والقولنج والحمى القوية، ومن في حكم ذلك كحاضر صف القتال والمحبوس لقتل أو قطع يخاف منه الموت، وكذا حامل ستة فهي كالمريض على المشهور قاله ابن بشير وقيل: كالصحيح لأن الغالب السلامة ومحلها ما لم تكن في حالة الطلق وإلاَّ فيحجر عليها قاله في الذخيرة. واختلف في الطاعون قبل نزوله بالمطلق ونحوه فقال ابن لب: الأظهر أنه ما دام على حال الصحة قبل نزول المرض به فهو على حكم الأصحاء قال: ولا يبعد أن يخرج فيه الخلاف من الخلاف الذي في راكب البحر على حال هوله إذا حصل في اللجة. اهـ. وقال ابن رحال في باب الحجر: إن الملجج في البحر يحجر عليه كالمريض قائلاً وهو الذي تجب به الفتوى عندي ولا أقدر على العدول عنه إذ دفعه محال ولا يفيد معه احتيال. اهـ. وفي مسائل العدة والاستبراء من البرزلي أنه إذا كان ذريعاً في الناس أذهب نصفهم أو ثلثهم فهم كالمرضى وإلاَّ فلا.
تنبيهات:
الأول: إذا ارتد المريض بانت منه زوجته ولا ترثه إن مات من مرضه قال التونسي: والطلاق عليه في مرضه لعيب به كجنون أو جذام لا ترثه امرأته كالردة. ابن عرفة: ما قاله التونسي واضح إلا أن في الحكم عليه به في مرضه نظراً والصواب تأخيره. قال ابن رحال: ما قاله ابن عرفة من وجوب التأخير هو المذهب. اهـ.
الثاني: ظاهر قول الناظم ليس من المحذور أن المرض إذا كان حين الطلاق غير مخوف ثم صار مخوفاً إنه يعتبر وقت الطلاق فلا ترثه، وهو الذي يدل عليه كلام ضيح واللخمي والمدونة وغير واحد، وهو ظاهر لأن غير المخوف في حكم الصحيح، والصحيح لو طلق ثم مرض لا ترثه. وقال ابن رحال في الخلع: إذا مات منه وأسند إليه الموت منه فقد تبين أنه مخوف. اهـ. وكأنه أخذه من قول ابن عرفة أن غير المخوف إذا كان عقبه الموت يصير مخوفاً كما ذكره (ز) عنه في باب الحجر.
قلت: ما نقله (ز) عن ابن عرفة من أن غير المخوف إذا كان عقبه الموت يصير مخوفاً إلخ. يقتضي أن المدار على الموت من ذلك المرض كان حين الطلاق أو التبرع مخوفاً أم لا. فهو صريح في إلغاء تقييده بالمخوف وذلك مخالف لتقييد الأئمة له بذلك. قال في المدونة: أما الفالج وصاحب حمى الربع والأجذم والأبرص وذو القروح والجراح فما أقعده من ذلك وأضناه وبلغ به حدّ الخوف عليه، فله حكم المريض، وما لم يبلغ به ذلك فله حكم الصحيح. اهـ. ولا معنى لكونه له حكم الصحيح إلا جريان أحكام الصحيح عليه، وإن زاد على ذلك وصار مخوفاً ولو كان المدار على الموت لقيدوه به لا بالمخوف، وما ذكروه عن ابن عرفة لم يذكره في باب الحجر ولا في باب الخلع ولعله ذكره في باب الطلاق، ولم تسعني مراجعة ذلك المحل الآن. وانظر ما يأتي في الهبة. وانظر أيضاً شرح الشامل عند قوله في الحبس، وبطل لوارث بمرض موته إلخ.
الثالث: لم يتكلم الناظم على خلع المريضة وفي المدونة قال مالك: وإن اختلعت منه في مرضها أي المخوف بجميع مالها لم يجز ولا يرثها. قال ابن القاسم: ولو اختلعت منه على أكثر من ميراثها منه لم يجز فأما على مثل ميراثه منها أو أقل فجائز ولا يتوارثان. ابن نافع: يلزمه الطلاق ولا يجوز له من ذلك إلا قدر ميراثه مثل ما فسر به ابن القاسم. اهـ. عياض: وأكثرهم أن قول ابن القاسم تفسير لقول مالك. اهـ. وممن حمله على الخلاف ابن رشد ووجه قول مالك بأن ما خالعت به أرادت أن يأخذه الزوج من رأس مالها عاشت أو ماتت وهو غير وارث فوجب أن يبطل، وإن كان أقل من ميراثه منها. اهـ. وعلى قول ابن القاسم الذي هو تفسير ففي ابن يونس يوقف ذلك فإن صحت أخذه وإن ماتت أخذ منه قدر ميراثه من التركة يوم ماتت لا يوم الصلح، وإن كان أقل من ميراثه فله الأقل ولا يحسب عليها ما أنفقت على نفسها في مصالحها إلا ما تلف ويحسب ما صالحته به من التركة وليس لها تعمد تلف مالها من غير مصلحة فإن أوصت بشيء فذلك في ثلث بقية التركة بعد عزل ما صالحت به ثم يضاف إلى ذلك ما بقي بعد الوصايا فيأخذ قدر ميراثه منه إلا أن يكون ما صالح به أقل فيأخذ الأقل. انظر ابن عرفة وأبا الحسن وإلى خلع المريضة أشار (خ) بقوله: ولم يجز خلع المريضة وهل يرد أو المجاوز لإرثه يوم موتها ووقف إليه؟ تأويلان.
الرابع: تقدم في الرجعي أنه يرثها إن ماتت قبل انقضاء عدتها فإن اختلفوا في انقضاء العدة فقال أبو الحسن على قولها في المواضعة وإن هلكت بعد مدة فيها استبراء فهي من المبتاع إلخ. يقوم من هذه المسألة أن الرجل إذا طلق امرأته ثم ماتت فقال ورثتها: ماتت بعد انقضاء العدة. وقال الزوج: بل قبل انقضائها واتفقوا على وقت الطلاق، فإن كان مضى من المدة ما تنقضي في مثله العدة غالباً وذلك ثلاثة أشهر فيحمل الأمر على أنها قد انقضت ولا ميراث له إلا أن يأتي بما يدل على أن عدتها لم تنقض من قولها قبل الموت، إذ هي مصدقة في ذلك فإن لم يأت بذلك وادعى أن الورثة علموا بذلك لزمهم اليمين، وإن كان لم يمض ما تنقضي فيه العدة غالباً حمل الأمر على أنها لم تنقض إلا أن يأتي الورثة على قولها ببينة أن عدتها قد انقضت وإن لم يأتوا بذلك فادعوا على الزوج أنه علم بذلك لزمته اليمين، وإن اختلف الزوج مع الورثة في وقت الطلاق فادعى الزوج مدة لا تنقضي في مثلها العدة فإن القول قول الزوج على معنى ما في سماع عيسى من طلاق السنة، ولا خلاف في هذا قاله ابن رشد.
والخُلْفُ في مُطَلَّقٍ هَزْلاً وَضَحْ ** ثالِثُهَا إلاّ إنِ الهَزْلُ اتَّضَحْ

(والخلف) مبتدأ (في مطلق) يتعلق بوضح (هزلاً) مصدر بمعنى الفاعل حال من ضمير مطلق (وضح) بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المبتدأ، والجملة خبر (ثالثها) مبتدأ والخبر محذوف تقديره يلزم (إلا) استثناء (أن الهزل) فاعل بفعل محذوف يفسره (اتضح) قال ابن سلمون: وإن طلق هازلاً ففيه ثلاثة أقوال. الأول: أنه لا يلزمه، والثاني: أنه يلزمه، والثالث: إن قام دليل على أنه كان هازلاً لم يلزمه وإلاَّ لزمه. اهـ. ومثله في عدها ثلاثة لابن شاس وابن الحاجب قال ابن عبد السلام: والذي حكاه غير واحد إنما هما قولان. والثالث تقييد لأن الهزل لا يثبت بمجرد الدعوى، والمشهور اللزوم. وعليه عول (خ) فقال: ولزم ولو هزلاً إلخ. أي: ولو تبين هزله وثبت وأحرى إذا لم يثبت كما في ابن رحال، وما ذكره ابن عبد السلام من أن الثالث تقييد تعقبه ابن عرفة بأن في كلامهم ما يدل على أن طلاق الهزل لغو مطلقاً إلا بقيد قيام دليله ونحوه في ضيح، وظاهر النظم أن الخلاف المذكور جار سواء هزل بإيقاعه أو بإيقاع لفظه عليه، والذي لابن عرفة أن هزل الإيقاع لازم اتفاقاً، وهزل إطلاق لفظه عليه المعروف لزومه. اهـ.
تنبيه:
النكاح والعتق مثل الطلاق في الخلاف المذكور كما في ابن الحاجب، والمشهور اللزوم البرزلي في المدونة عن ابن المسيب: ثلاث هزلهن جد: النكاح والطلاق والعتق. وجعل في غير المدونة مكان العتق الرجعة، فهذه أربع هزلها جد كما في ضيح. ابن الحاج: في نكاح الهزل خلاف وعدم لزومه أظهر لقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} (البقرة: 225) فكما لا كفارة فيه كذلك لا نكاح. اهـ.
قلت: تأمل هذا الاحتجاج بالآية المذكورة فإنه لا يجري على ما فسر به (خ): وغيره اليمين اللغو حيث قال: ولا لغو على ما يعتقده فظهر نفيه، وأيضاً فإن اللغو خاص باليمين بالله تعالى، وما ذكره ابن الحاج ذكر القرافي مثله عن الشافعي، وذكر أن اللغو عندنا خاص بالله تعالى، ثم قال ابن الحاج: والبيع مثل النكاح. قال البرزلي: إنما هو مثله في جريان القولين لا في مذهب المدونة لأن الهزل في البيع يحلف معه ولا يلزم على مذهب المدونة. اهـ. وانظر الفرق بينهما أي بين البيع والنكاح فيما كتبناه على قول (خ) في النكاح، ولزم وإن لم يرض إلخ. وانظر ما قاله الشراح هناك أيضاً، وانظر أيضاً من باع زوجته أو زوجها وادعى الهزل في ابن عرفة هنا، وذكر (خ) في الخلع أن بيعها وتزويجها يكون طلاقاً بائناً.
تنبيه:
قال في الذخيرة ما نصه: لمطلق اللفظ ثلاث حالات تارة يستعمله في موضوعه الذي وضع له فيلزمه مقتضاه في الفتيا وفي القضاء وتارة في غير موضوعه فلا يلزمه في الفتيا ويلزمه في القضاء إلا أن تصدقه قرينة. وقد تقدم الكلام على قوله: يا طالق. وقال: أردت من وثاق أي فيصدق في الفتيا ولا يصدق في القضاء قال: وتارة يطلقه ويقتطعه عن مسماه ولا يصرفه إلى غير مسماه، بل يطلقه عبثاً من غير إرادة معنى البتة بل مقروناً بنية القطع عن المسمى، فهذا هو الهازل سواء دلت عليه القرينة أم لا. ولا يكفي في الهزل أنه أطلقه من غير نية لأن الصريح لا يفتقر إلى النية فهذا تحريره فاضبطه. اهـ.
ومالِكٌ لَيْسَ لَهُ بِمُلْزِمِ ** لِمُكْرَهٍ في الفِعْلِ أَوْ في القَسَمِ

(ومالك) مبتدأ (ليس) اسمها ضمير يعود على المبتدأ (له) يتعلق بخبر ليس المجرور بالباء الزائدة الذي هو (بملزم) بكسر الزاي والضمير المجرور عائد على الطلاق وهو في محل نصب على المفعولية بملزم ولضعف العامل تعدى إليه باللام، والجملة خبر المبتدأ (لمكره) بفتح الراء يتعلق بملزم (في الفعل) يتعلق بمكره و(في) بمعنى (على) (أو في القسم) معطوف عليه، والمعنى أن الإمام مالكاً رحمه الله ليس ملزماً الطلاق للمكره على فعل الطلاق أو إيقاعه أو على الإقرار به أو على القسم به أو على فعل ما يحنث به لقوله (صلى الله عليه وسلم) كما في مسلم: (حمل عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وقال فيه أيضاً حسبما في القرافي: (لا طلاق في إغلاق). والإغلاق عند مالك الإكراه لأن الإغلاق هو الإطباق من أغلقت الباب فكأن المكره قهر على الفعل، وأغلق عليه حتى فعله خلافاً لمن قال: إن الإغلاق هو الغضب فإنه لا يصح قاله ابن رشد. قال: وطلاق الغضب واللجاج لازم اتفاقاً، وقد تقدم ذلك عند قوله: وينفذ الواقع من سكران إلخ. والإكراه كما قال (خ) يكون بخوف مؤلم من قتل أو ضرب أو سجن أو قيد أو صفع لذي مروءة بملأ أو قتل ولده أو ذهاب ماله وهل أن كثر تردد إلخ. ومثل الطلاق النكاح والبيع والإقرار في عدم اللزوم بالإكراه، وظاهر النظم أنه لا يلزمه ولو ترك التورية مع معرفته بها والاعتراف بأنه لم يدهش عنها. وهذا ظاهر الروايات كما في ابن شاس قال (ز): وهو المذهب. وقال اللخمي: للمكره ثلاث حالات فإن طلق باللفظ دون النية لم يلزمه قال: لأن الصحيح من المذهب أن الطلاق بغيرها لا يلزم وإن لم يكن مكرهاً فأحرى المكره وإن نوى الطلاق وهو عالم ذاكر أن له أن يجعله لفظاً بغير نية لزمه لأن النية لا تدخل تحت الإكراه، فهو طائع بالنية، والحالة الثالثة: أن يدهش عن النية إما للجهل بها وإما لأن الزمان لم يمهله لشدة الإكراه، فظاهر المذهب عدم اللزوم قال: ولعل الخلاف بين العلماء يرجع إلى هذه الحالات. اهـ. وجعله صاحب المختصر تقييداً فقال: أو أكره ولو في فعل إلا أن يترك التورية مع معرفتها إلخ. ومراده بالتورية أن يأتي باللفظ عارياً عن نية الطلاق كما تقدم عن اللخمي ولا يحتاج إلى أن ينوي معنى بعيداً كطلاق من وثاق مثلاً ونحوه. كما هو مقتضى التورية البيانية والتورية خاصة بالأقوال، ولا تورية في الأفعال. ولذا قال (تت): لو قدم المصنف الاستثناء على المبالغة لوفى بالمراد.
تنبيه:
قال في الذخيرة: النية لفظ مشترك بين الكلام النفساني، ومعناه أن يقول في نفسه: أنت طالق كما يقول بلسانه وهو مرادهم بالنية هاهنا وبين القصد، وهو المراد في العبادات. وليس مراداً هاهنا للإجماع على أن من عزم على طلاق امرأته ونوى ذلك أنها لا تطلق عليه. قال: والذي عفى عنه من حديث النفس الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم) إنما هو ما هجس عليها من غير عزم، وأما العازم على الخير والشر والاعتقادات في الكفر وغيره وما يلزمه من الإخبارات فمعتبرة إجماعاً لقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} (البقرة: 284) وهذا هو طريق الجمع بين الآية والحديث. اهـ. ومراده أن الآية في الكلام النفساني الذي يؤاخذ به المكلف وهو أن يجري ذلك على قلبه، كما يجري على لسانه من غير تلفظ به. والحديث في مجرد القصد من غير أن يجري ذلك على قلبه.
وحاصل الفرق على ما ذكره أن في النفساني أوقع الطلاق ونحوه بقلبه من غير تلفظ به، وفي مجرد القصد نوى أن يفعل من غير إيقاع بقلبه فضلاً عن لسانه وإلاَّ فالكل قصد ونية إلا أنه في الأول صاحبها إيقاع في القلب دون الثاني، وما ذكره من لزومه في النفساني هو أحد قولين مشهورين. والقول الآخر يقول بعدم اللزوم وشهره غير واحد، واستظهره ابن عبد السلام قائلاً: إنما يكتفي بالنية في التكاليف المتعلقة بالقلب لا فيما كان بين الآدميين كالطلاق ونحوه. اهـ. فتأمل هذا الخلاف مع الإجماع الذي ذكره القرافي، ثم قال القرافي بعد ما مر: النية في المذهب لها معنيان. أحدهما: الكلام النفسي وهو المراد بقولهم في الطلاق بالنية قولان. وبقولهم إن الصريح لابد فيه من نية على الأصح مع أن الصريح مستغن عن النية التي هي القصد بإجماع، وثانيهما القصد الذي هو الإرادة وهو قسمان. أحدهما: القصد لإنشاء الصيغة والنطق بها ولا أعلم في اشتراطه خلافاً، وثانيهما: القصد لإزالة العصمة في اللفظ وليس شرطاً في الصريح اتفاقاً، وكذلك ما اشتهر من الكنايات فإذا تحرر هذا فالمكره لم يختل منه القصد للصيغة، بل قصدها وقصد اقتطاعها عن معناها على قول اللخمي. وأما على ظاهر الروايات كما في الجواهر فلا حاجة لذلك، ثم قال: سؤال انعقد الإجماع على عدم اشتراط القصد في الصريح، واللخمي وصاحب المقدمات يقولان: الصحيح من المذهب اشتراط النية، فكيف الجمع بينهما؟ وجوابه: أن المشترط النية التي هي الكلام النفساني فلابد أن يطلق بقلبه كما يطلق بلسانه وهو يسمى نية كما تقدم اه كلامه في ذخيرته.
قلت: وقد يجمع بينهما بأن الإجماع إنما هو بحسب الظاهر أي فلا يصدق في الظاهر أنه لم ينو بالصريح طلاقاً بل يؤاخذ به في الفتوى والقضاء إجماعاً، وكلام صاحب المقدمات واللخمي إنما هو بحسب ما في نفس الأمر أي: فلا طلاق عليه فيما بينه وبين الله، فلم يتواردا على محل واحد، وهذا هو الذي يدل عليه كلام غير واحد، ولاسيما كلام المتيطي المتقدم عند قوله: وينفذ الطلاق بالصريح إلخ. وأما جوابه المتقدم فهو غير واف بالمراد كما يعلم بالتأمل.
تنبيه ثان:
أطلق الناظم و(خ) في الفعل فظاهرهما سواء حلف لا أدخل الدار مثلاً فأكره على دخولها، أو حلف ليدخلنها وقت كذا فحيل بينه وبينها حتى ذهب الوقت فلا حنث عليه فيهما على أحد طرق أربعة. ذكرها ابن غازي، والمشهور عند ابن رشد أنه يحنث في صيغة الحنث لا في صيغة البر وعليه عول (خ) في باب اليمين حيث قال: ووجبت به إن لم يكن ببر. وأجاب بعض بأن الإكراه في صيغة الحنث إنما هو على الترك لا على الفعل. فلا يشمل كلام الناظم و(خ) الإكراه على الترك، فلا يكونان درجا على غير المشهور. وهذا في الحالف على فعل نفسه، وأما الحالف على فعل غيره، فعن مالك الحنث، وعن سحنون عدمه، وبالحنث أفتى أبو الحسن حسبما في الدر النثير: امرأة هربت من زوجها فحلف زوجها لا باتت في المحل الذي هربت إليه فأحنثته وباتت به قهراً عليه فقال: لا ينفع فيه الإكراه لأنه حالف على فعل الغير، والإكراه فيه لا يرفع حكم اليمين. اهـ.
قلت: ظاهره ولو فعلت ذلك قاصدة تحنيثه، وفي البرزلي أنه المشهور وهو ما اعتمده شراح (خ) عند قوله في النكاح: أو قصداً بالبيع الفسخ إلخ. وفي الذخيرة في باب الطلاق ما نصه: قال بعض أصحابنا: إذا قال لامرأته: أنت طالق أو لعبده: أنت حر إن فعلتِ أو فعلت كذا أو إن لم تفعلي أو إن لم تفعل ففعل أو فعلت لقصد تحنيثه لا يلزمه طلاق ولا عتق، وقيل: يلزمه الطلاق دون العتق. اهـ. فانظر كيف صدر بعدم الحنث، وحكى مقابله بقبل وشمل قوله في فعل أيضاً الإكراه على المعصية: كأن يحلفه الظالم بالطلاق مثلاً على أن لا يصلي أو على أن يشرب الخمر فيصلي ولا يشرب فلا حنث عليه على المشهور. وهو مذهب سحنون. وقيل: يحنث ويحرم عليه أن يفعل، والفرق على هذا الضعيف بين الأقوال والأفعال حتى كان الحنث ساقطاً في الأول دون الثاني هو أن المفاسد لا تتحقق في الأقوال لأن المكره على قول ما يكفر به معظم لربه بقلبه بدليل قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (النحل: 106) بخلاف شرب الخمر ونحوه، فإن المفاسد في ذلك محققة قال القرافي: وفرق ابن عبد السلام بأن القول لا تأثير له في المعاني ولا في الذوات بخلاف الفعل فإنه مؤثر. اهـ. وكذا إن حلفه على ما ليس بمعصية ولا طاعة كأن لا يدخل السوق مثلاً فدخل فلا حنث أيضاً، وأما إن حلفه على طاعة كأن يحلفه أن لا يشرب الخمر فشربها ففي الحنث قولان. وتارة يكون الإكراه على أن يحلف أنه ما فعل في الماضي أو أنه فعل، ويكون على معصية أيضاً وغيرها. انظر تفصيل ذلك في (ح) وهذا في المعصية التي لا حق لآدمي فيها كما مرّ في الأمثلة، وأما ما فيها حق للمخلوق كالقتل والغصب فلا يسعه أن يفعل اتفاقاً وإن فعل فلا يسقط الإكراه القصاص في القتل وهو معنى قول (خ): لا قتل المسلم وقطعه وإن بزنا إلخ.
تنبيه ثالث:
ظاهر النظم كغيره أن الإكراه المذكور لا فرق بين أن يكون مقارناً لوقت إيقاع الطلاق أو متقدماً عليه، وهو ما يفيده كلام الشارح في بيع المضغوط قائلاً: حكم الضغط منسحب على البائع وإن تراخى البيع عن وقته بالشهرين ونحوهما، ونحوه في ابن سلمون عن ابن الحاج وابن رشد وغيرهما خلاف ما أفتى به أبو سعيد بن لب فيمن سلم في ميراثه من أمه لأخيه ثم بعد موت الأخ قام برسم يتضمن أن التسليم كان خوفاً لما كان هدده به أخوه الميت من القتل، وأنه كان من أهل الشر والحرابة. قال ابن لب: لم أر هذا الرسم كافياً في رد التسليم المذكور لأن المطلوب أن يؤدي الشهود على حضورهم في تاريخه وأنهم سمعوا التخويف إذ ذاك حتى وقع التسليم في موطنه، ولا يكفي قدم التخويف على التسليم في غير مجلسه، ولا يعلمون ما اتفق في وقته وتاريخه. اهـ. واعتمد فتواه هذه أبو محمد عبد القادر الفاسي في جواب له نقله العلمي.
وكُلُّ مَنْ يَمينُهُ باللازِمَهْ ** لَهُ الثَّلاث في الأَصَحِّ لاَزِمَهْ

(وكل) مبتدأ (من) مضاف إليه (يمينه) مبتدأ خبره (باللازمة) والجملة صلة الموصول والرابط الضمير المجرور بالمبتدأ (له) يتعلق بقوله لازمة آخر البيت (الثلاث) مبتدأ (في الأصح) يتعلق أيضاً بالخبر الذي هو (لازمه) والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الضمير المجرور باللام.
وقِيلَ بَلْ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّهْ ** مَعْ جَهْلِهِ وَفَقْدِهِ لِلنِّيَّهْ

(وقيل) مبني للمفعول، ونائبه الجملة المحكية به لأنها في محل المفعول، فلما بنى الفعل للمفعول ناب مفعوله الذي هو الجملة المحكية عن فاعله (بل) حرف إضراب (واحدة) فاعل بفعل محذوف أي تلزمه واحدة (رجعية) صفة (مع) يحتمل أن تكون خبر المحذوف، والجملة حال مما قبله أي: وكل هذا كائن مع إلخ. ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال أي: وتلزمه واحدة رجعية حال كونه مصاحباً (مع جهله وفقده للنية) والجملة من قيل وما بعده استئنافية.
وَقِيلَ بَلْ بَائِنَةٌ وَقِيلَ بَلْ ** جَمِيعُ الأَيْمَانِ وما بِهِ عَمَلْ

(وقيل بل بائنة) إعرابه كالذي قبله (وقيل بل جميع الأيمان) إعرابه كالذي قبله أيضاً (وما) نافية (به) خبر عن قوله (عمل) والمعنى أن من حلف بالأيمان اللازمة فقال مثلاً: الأيمان تلزمني لا فعلت أو إن فعلت، أو قال الأيمان لازمة لي أو جميع الأيمان أو الأيمان كلها أو أيمان المسلمين، فقد اختلف فيما يلزمه على أربعة أقوال. على ما ذكره الناظم، وأشار بقوله: الأصح لقول الباجي في المنتقى أنه الأظهر عندي، وفي المعيار عن العقباني أنه المشهور، وفي ضيح أنه الصحيح عند التونسي واللخمي وعبد الحميد والمازري وغيرهم، حتى أن السيوري أفتى بنقض حكم الحاكم إن أفتى بالواحدة وقوله: مع جهله وفقده للنية. يحتمل أن يكون هو موضوع الأقوال أي محل هذه الأقوال إذا جهل مدلول اللفظ وفقد النية أي: وفقد العرف أيضاً وإلاَّ لزمه ما نواه باتفاق، أو ما جرى به العرف كما في ابن سلمون وغيره، فإن نوى أمراً والعرف بخلافه قدمت النية لقول (خ) وخصصت نية الحالف إلى قوله: ثم عرف قولي إلخ. لأن الأعراف أصل معتبر في الأيمان، وكان الناظم استغنى عنه بالنية لأنه معلوم أنه يخصص كالنية أو فيه حذف الواو مع ما عطفت كما قررنا، ويحتمل أن سبب اختلاف هذه الأقوال هو اختلاف الأعراف، فكل قال بما جرى به عرف بلده من ثلاث أو غيرها، فمن جرى عرف بلده بقصد الثلاث فقد دون غيرها ألزمه إياها، ومن جرى عرف بلده بالرجعي ألزمه إياه أو البائن فقط ألزمه إياه، وقوله: وما به عمل أي لكون عرفهم لا يقصدون به جميع الأيمان مما عدا الطلاق. وفي (خ) من لزوم العتق والثلاث والمشي للحج إلى غير ذلك إنما هو إذا كان عرفهم استعمال اللازمة في الطلاق وغيره مما ذكر أو لا عرف لهم فيها. وكانت عادة الناس الحلف بالصدقة بالثلث والحج والعتق والمشي ونحو ذلك. ووجه الأول ظاهر لأن العرف يخصص اللفظ أو يعمه فإذا كان العرف استعمال اللازمة في الطلاق فقط. فلا يلزمه غيره، وإذا كان العرف استعمالها في الطلاق والعتق مثلاً أو فيهما. وفي الحج فكذلك أيضاً وهكذا. ووجه الثاني أن اللفظ إذا لم يكن فيه عرف يخصصه أو يعممه فإنه يحمل على مدلوله اللغوي كما هي القاعدة، ولا شك أن مدلوله لغة جميع الأيمان من طلاق وحج ومشي وغيرها مما عادة البلد الحلف به حتى أنه إذا كانت عادتهم الحلف بالعتق فقط لم يلزمه غيره إذا علمت هذا، فعلى الاحتمال الأول يكون قول الناظم: وما به عمل الخ في عهدته لما علمت أنه حيث لا نية ولا عرف يلزمه مدلول اللفظ لغة كما مرّ وهو المشار له بقول (خ) ثم مقصد لغوي إلخ. ولم أقف على ما قال إنه حينئذ لا عمل عليه، وحمل الناظم على هذا الاحتمال وإن ورد عليه ما ذكر هو الموافق للنقل. قال ابن سلمون: يلزم الحالف بالأيمان اللازمة إذا لم تكن له نية عتق من يملكه والصدقة بثلث ماله. والمشي إلى بيت الله تعالى وكفارة يمين وطلاق نسائه. واختلف فيما يلزمه من الطلاق فذكر الأقوال الثلاثة. الأول في النظم وذكر عن الأبهري أنه لا يلزمه فيها سوى الاستغفار. ثم قال: قال بعض المتأخرين: فإن جرى فيها عرف في بلد من البلاد كان العمل فيها بحسب العرف عند الإطلاق انتهى باختصار. ونحوه في ابن شاس وغيره فقوله: فإن جرى فيها عرف إلخ. تقييد لتلك الأقوال كما مرّ في أصل التقرير لأنه عند فقد النية يصار للعرف كما صرح به ابن لب، وغيره في هذه المسألة وهو ما مر عن (خ) في قوله: ثم عرف قولي إلخ. وحينئذ فإن كان مراد الناظم هذا الفقه كما هو ظاهره، ولكن الغالب عليه تبعيته لابن سلمون فيشكل بما مر، وبأن القول الرابع هو المشهور لأنه المطابق للغة، فكيف يكون مقابله أصح وبأن قوله مع جهله لا ينبغي أن يكون موضوعاً للأقوال لأنه عند ثبوت جهله بمدلول اللفظ لا يلزمه شيء لا في الفتوى ولا في القضاء كما أشار له (خ) بقوله: أو لقن بلا فهم إلخ. فلو قال بدله لعدم العرف وفقد النية لسلم من هذا، وأما على الاحتمال الثاني فللاختلاف بين الأقوال في الحقيقة بل كل قال بما جرى به عرف بلده كما مرّ، ويشكل القول الرابع أيضاً لأن موضوعه حيث لا عرف فلا تحسن مقابلته بما قبله. وأما قوله: وما به عمل إلخ. على هذا الاحتمال فهو في محله لأنه حيث كان العرف استعمال اللفظ المذكور في الثلاث فقط أو في البينونة فقط أو في العتق فقط مثلاً كان لزوم جميع الأيمان مهجوراً لا عمل عليه لا في الفتيا ولا في القضاء، ففي كلام الناظم إشكال على كلا الاحتمالين.
تنبيهات:
الأول: إذا قال القائل: الأيمان لازمة له أو الأيمان تلزمه فلا يخفى أن أل للاستغراق وإلا كانت للعهد الذهني، وحينئذ فإن لم يكن عرف فيها فلا عهد ذهنياً، ويحمل اللفظ على عمومه كما لو قال: عليه جميع الأيمان أو عليه أيمان المسلمين أو أيمان البيعة ونحو ذلك، فيلزمه جميع ما اعتاد الناس الحلف به في ذلك كما مرّ سواء اعتاد هو خلافهم أو لم يعتد شيئاً حتى أنه لو كانت عادتهم الحلف بالله فقط لزمه ثلاث كفارات فقط لأنه مدلوله لغة وعرفاً حينئذ، ولا يمكن أن تخلو بلد من الحلف بالله تعالى وبغيره حتى يقال: إنه إذا لم يكن له نية ولا لأهل بلده عادة لم يلزمه شيء كما في الزرقاني، وأما إن كان فيها عرف خاص بحيث لا يستعملها أهل البلد إلا في خصوص الطلاق الثلاث أو البائن أو في العتق مثلاً فأل في ذلك للعهد الذهني، والمعهود ما به العرف ولا ينظر حينئذ لكل ولا لجميع ولا لغيرهما من ألفاظ العموم ولا لصيغة الجمع، لأنه وإن أتى الحالف بلفظ دال على العموم أو بصيغة الجمع فهو مخصوص بعرف بلد الحالف فلا يلزمه غير ما به عرفهم وصيغة الجمع والعموم ملغاة، وإلى هذا ترجع فتاوى المتأخرين التي في الشارح وغيره، وعليه فاللازم فيها في بلدنا اليوم إنما هو الطلاق لأن الناس اليوم لا يعرفون الحلف بالعتق ولا بالمشي ولا بالصدقة فقولهم: أيمان المسلمين أو الأيمان اللازمة لهم كقولهم: عليهم الطلاق، والظاهر كما للمسناوي و(تت) أن يحمل على الواحدة البائنة لأن الناس اليوم لا يعرفون الطلاق الرجعي.
قلت: والظاهر أن يحمل الثلاث لأن أكثر الناس اليوم الحلف بالطلاق الثلاث، وهم إنما يقصدون بها التشديد والتغليظ كحلفهم بالحرام آخر الثلاث فهي مساوية له عندهم على ما شهدناه منهم، وعلى تسليم حلفهم بالحرام مجرداً من آخر الثلاث، وأنه يكثر منهم الحلف به مجرداً ومقروناً بالثلاث، فحمله في اللازمة على الثلاث أحوط عند عدم النية لأن الفروج يحتاط لها.
الثاني: درج أبو زيد الفاسي في عملياته على ما للأبهري وابن عبد البر من أنه لا يلزمه فيها سوى الاستغفار فقال:
وعدم اللزوم في أيمان ** لازمة شاعت مذ أزمان

فظاهره أنه لا يلزمه شيء ولو كفارة يمين بالله، وهذا إنما هو على الاحتمال الأول في كلام الناظم أي حيث لا نية ولا عرف، ومع ذلك فهو مقابل للمشهور من حمله حينئذ على مدلول اللفظ لغة، وإلاَّ فهو إذا كانت له نية لزمه ما نواه اتفاقاً من طلاق أو غيره، وإن كان لهم فيها عرف لزمه ما هو عرفهم فيها لأنه كالنية كما مر ولا يحل للمفتي أن يفتيه حينئذ بعدم اللزوم إذ ذاك خروج عن أقوال أئمة المذهب وما به العمل لابد أن يوافق قولاً وإن شاذاً.
الثالث: كثير من الناس في هذه الأزمنة يقول عليه ما يلزمه لأفعل كذا ولا يزيد من الأيمان والجاري على ما مر أنه يلزمه ما نواه أو ما به عرفهم، فإن لم تكن نية ولا لهم عرف في هذا اللفظ، فالظاهر أنه لا يلزمه شيء لأن الذي يلزمه من صلاة وصيام وزكاة ونحوها هو لازم له بدون يمين، وغير اللازم له مما ذكر لا دلالة للفظ عليه وقديماً كنت متأملاً فيه، ثم أجريته على قول (خ): وكأحلف أو أقسم إن نوى بالله إلخ. وأنه إذا لم تكن له نية ولا عرف لا شيء عليه.
الرابع: تقدم أن من عادته الحلف باللازمة أو بالثلاث أو بالحرام لا يرخص له بل يلزمه ما يلزم غيره ممن وقع ذلك منه فلتة، ولو أدى إلى تحريمها عليه قبل زوج ولا يعذر لجري ذلك على لسانه، بل هو أولى بالتشديد لأن ذلك استخفاف منه بالأيمان خلاف ما يعتقده كثير من جهلة الطلبة من عذره، وقد نص على ذلك في المعيار وغيره. وفي ابن سلمون إثر الأقوال المتقدمة في اللازمة ما نصه: وقد أفتى فيها بعضهم بفتوى غريبة وهي أنه إن كان الحالف بها من أهل العفاف والصلاح، ولم يعتد الحلف بها، وإنما خرجت منه على ضجر فتلزمه الواحدة وإن كان من أهل الدعارة والشر، وممن يحلف بذلك في كل وقت فإنه يلزمه الثلاث ولا وجه لذلك عندي. اهـ. ونحوه في المعيار عن أبي الفضل العقباني قائلاً: فمن هو أهل للعذر وكان الشيء منه فلتة فحسن أن يترك للتقليد لقول فيه رحمة، وأما من دأبه الأيمان ويستخف بأمرها فينفذ عليه الحكم بالمشهور اه باختصار. فقد علمت أن من دأبه الأيمان أولى بالتشديد عليه، وإن من وقع ذلك منه فلتة فالمشهور ومذهب الجمهور أنه لا يرخص له أيضاً، ومقابله وإن أفتى به العقباني شاذ حتى قال ابن سلمون: كما رأيته أنه لا وجه له عنده وهو الصواب إن شاء الله؛ إذ الأحكام الشرعية لا فرق فيها بين صالح وطالح والله أعلم.
الخامس: في المديان من البرزلي فيمن حلف بالطلاق يعني أو باللازمة أو غيرها؛ أنه لا مال له وقد ورث مالاً لم يعلم به أنه حانث. ابن رشد: هي على مراعاة الألفاظ دون المقاصد اه باختصار. يعني: ولو روعي المقصد لم يحنث لأن المعنى لا مال له في علمه، والمذهب أن العبرة بالمقاصد انظر شرح ابن رحال للمختصر في باب الخلع، وقد تقدم عند قول الناظم: وينفذ الطلاق بالصريح إلخ. عن ابن رشد: أن الحمل على القصد هو الأشهر الأظهر.
السادس: إذا حلف باللازمة أو بغيرها لا بقي أو إن بقي في هذه الدار هل هو بمنزلة لا سكنت فلا يرجع أبداً أو بمنزلة لأنتقلن. وفيها قولان. فقيل: ذلك بمنزلة لأنتقلن، وبه قال اليالصوتي: وقيل ذلك بمنزلة قوله لا سكنت، وبه قال أبو الحسن القاري، وهو الذي رجحه أبو العباس سيدي أحمد بن المبارك السجلماسي قائلاً: وما لليالصوتي مخالف للقواعد الأصولية وللمقصد اللغوي عند عدم العرف والنية، وحينئد فيحنث إن لم يخرج من حينه أو إن رجع لأن الفعل كالنكرة، فيعم في سياق النفي ولا يعم في سياق الإثبات فعدم خروجه من حينه جزئية موجبة ورجوعه بعد الخروج جزئية أخرى، وكل منهما يناقض الكلية السالبة التي دل عليها الفعل الواقع في سياق النفي، وأما الفعل الواقع في سياق الإثبات كلأنتقلن فهو جزئية موجبة فإذا لم يعجل بالخروج أو رجع حصل من ذلك جزئية سالبة وهي لا تناقض الجزئية الموجبة، فإذا لم يحنث بواحد منهما فحمل قوله: إن بقيت أو لا يبقى على قوله: لا سكنت هو الصواب لأن الفعل عندهم كالنكرة، ولذا كانت تنعت به النكرات ويقع حالاً من المعارف فهو بعد النفي نكرة منفية وبعد الإثبات نكرة مثبتة، ولا شك أن حمل النكرة المنفية على النكرة المثبتة كما لليالصوتي سهو لا خفاء فيه وإن تبعه على ذلك السهو البرزلي، اللهم إلا أن يكون هناك عرف وقت اليالصوتي بأن لا بقيت بمعنى لأنتقلن عندهم، وذلك هو اللائق بجلالة إمامته اه باختصار. وقوله: إن بقيت إلخ. يعني والحال أن إن نافية لا شرطية.
السابع: إذا قال الرجل لامرأته: بالله الذي لا إله إلا هو إن خرجت امرأته من هذه الدار فهي عليه حرام، أو فالأيمان لازمة له أو قال: والله إن خرجت لأطلقنك أو لا كنت لي امرأة أبداً، أو قال: والله إن قيلت أو بتِّ في هذه الدار لا قيلت أو بت على ذمتي ونحو ذلك فالأمر في ذلك كله على التعليق لا التأكيد بمضمون الشرط، والجواب فكأنه قال: إن خرجت ولم يحرمها أو لم يطلقها لزمته اليمين بالله هذا هو الذي نسبه ابن عرفة للأكثر، وأفتى به ابن رشد وأصحابه فيمن قال لامرأته: والله إن تشاررت مع أمي وخرجت لخرجت إلا كخروجها فتشاررت وخرجت الأم فأفتوا بأنه لا يلزمه إلا كفارة اليمين بالله إن أراد البقاء على الزوجية. قاله في نوازل الزياتي عن سيدي العربي الفاسي قائلاً. وفي المعيار وغيره كثير من ذلك، وقد جزم أبو عبد الله المواق بأن ذلك حكمه حكم مسألة المدونة. ونصها، قال مالك: من قال لامرأته والله لأطلقنك فليس بمول ولا يمنع من الوطء، فإن شاء طلق فبر وإن لم يطلق لم يحنث إلا بموته أو موتها ولا يجبر على الكفارة. اهـ. وقد سئل قاضي الجماعة ومفتيها أبو محمد عبد الواحد الونشريسي عمن حلف بالطلاق لامرأته لا كانت له امرأة أبداً. فأجاب له إحناث نفسه بالبقاء على الزوجية ويلزمه الطلاق الواحد إلا أن ينوي أكثر، وله الرجعة إن أحنث نفسه. اهـ. وانظر نوازل الشهادات من المعيار فيمن شهد عليه واحد بالثلاث وشهد عليه آخر بالأيمان اللازمة هل تطلق أم لا؟.
الثامن: قال في المعيار أيضاً: ذكر ابن مرزوق أنه وقع في مجلس ابن عرفة نزاع فيمن وكل أو فوض لامرأته الطلاق فحلفت بالحرام وحنثت هل يلزمه الطلاق أم لا؟ قال: ولم أتحقق ما قاله الشيخ مما قاله غيره، فسئل عنها أبو عبد الله القروي فأجاب: بعدم اللزوم لأنه لم يجعل لها إيقاع الطلاق بالحلف، وتذكر عدم لزوم أيمان الوكيل لموكله اه بالمعنى.
التاسع: في نوازل الشفشاوني في سياق أجوبة لابن لب ما نصه: وسئل أيضاً عمن قال لزوجته: عليه الحرام أو اللازمة لا دخلت دار أبيك هذا العام هل يحمل العام على ما بقي منه أو يستأنف؟ فأجاب: إن كانت له نية أو بساط عمل عليهما، وإن لم تكن له نية ولا بساط فيحمل على بقية العام لأنه المحقق والذمة لا تعمر إلا بمحقق اه فتأمله.
والبِكْرُ ذَاتُ الأَبِ لاَ تُخْتَلعُ ** إلاَّ بإذْنِ حاجِرٍ وَتُمْنَعُ

(والبكر) مبتدأ (ذات الأب) نعت له وجملة (لا تختلع) بالبناء للفاعل خبر (إلا) إبطال للنفي (بإذن) يتعلق بتختلع (حاجر) مضاف إليه (وتمنع) بالبناء للمفعول ونائبه ضمير البكر ومتعلقه محذوف أي وتمنع بغير إذنه، والجملة معطوفة على الجملة قبلها مفسرة لها في المعنى.
وَجازَ إنْ أبٌ عَلَيْهَا أَعْمَلَهْ ** كَذَا عَلَى الثَّيِّبِ بَعْدَ الإذْنِ لَهْ

(وجاز) فاعله ضمير الخلع (إن) شرط (أب) فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده (عليها) يتعلق بقوله (أعمله) وقوله: (كذا) خبر لمبتدأ محذوف (على الثيب) يتعلق بأعمله محذوفاً لدلالة ما قبله عليه (بعد الإذن) يتعلق بأعمله المحذوف (له) يتعلق بالإذن. والتقدير: والحكم كائن كذلك إن أعمله الأب على الثيب بعد إذنها له، ومعناه أن البكر الصغيرة أو البالغ التي لم ترشد ولم يدخل بها زوجها أو دخل وطلقت قبل المسيس ولم تطل إقامتها سنة ومثلها الصغيرة التي ثيبت قبل البلوغ لا يجوز خلعها. وظاهره ولو خالعت بخلع أمثالها ويجب رد المال إن وقع وبانت. نعم إن أعمله الأب عليها بإذنها أو بغيره جاز، ولزم حيث كان نظراً لأنه معزول عن غير المصلحة، وظاهره: ولو بجميع صداقها وهو كذلك كما في المدونة وليس ذلك للوصي الغير المجبر، وأما المجبر فهو كالأب فلو قال الناظم:
والبنت ذات الجبر لا تختلع ** إلا بإذن مجبر وتمنع

وجاز إن هو عليها أعمله إلخ. لوفى بالمراد ويفهم منه أن الوصي الغير المجبر، ومثله مقدم القاضي ليس له ذلك في هذه البنت التي لو كان أبوها لجبرها إلا بإذنها فيجوز إن كانت بالغة وكان نظراً لها وأما الصغيرة فلا يجوز خلعها، ولو أمضاه وصيها المذكور، وكذا خلع وصيها عنها بإذنها على المشهور المعمول به كما في ابن سلمون، وظاهر (خ) وشراحه أن ذلك يمضي من الصغيرة بإذنه وصرح به ابن رحال فقال: وأما خلع الوصي بموافقة محجورته السفيهة والصغيرة فيجوز. اهـ. وهو أقوى إذ حيث فعلت بإذنه فهو الفاعل لذلك، وكذا إن أمضاه. وعلى ما لابن سلمون يكون في مفهوم المجبر على الإصلاح المذكور تفصيل بين الإذن وعدمه والصغيرة وغيرها. وقوله: كذا على الثيب إلخ. هذا مفهوم قوله: البكر.
ومعناه أن الثيب البالغة السفيهة يجوز للأب أن يخالع عنها من مالها بإذنها، وكذا الوصي ومقدم القاضي لأنه إذا جاز لهما الخلع في البكر البالغ بإذنها كما مر فأحرى في الثيب، ومفهوم قوله: بعد الإذن أن خلعه عنها بغير إذنها لا يمضي عليها وهو كذلك على المشهور المعمول به، ولها حينئذ مطالبة الزوج بصداقها والطلاق واقع. ولا يقال إذن السفيه كلا إذن فلم اشترطوه هاهنا؟ لأنا نقول لاحظوا هاهنا الضرر البدني، لكن من حجتها على الأب والوصي أن تقول إسقاطكما مالي عن زوجي لما يتقى من سوء عشرته لا يلزمني لأني أرضى بالبقاء معه على ذلك الحال، وفهم من قوله بعد الإذن له إنها إذا خالعته وحدها لا يمضي أيضاً، ولو خالعته بخلع وهو ظاهر قول (خ) لا من صغيرة وسفيهة إلخ. والمراد بالسفيهة هاهنا بكراً كانت أو ثيباً من ثبتت لها حالة السفه لأن العبرة بالحال لا الولاية فمن حالها حال الرشداء مضى خلعها، ولو كان لها حاجر، والعكس بالعكس والصغيرة لا تكون رشيدة إذ من شرطه البلوغ كما في ابن رحال. وظاهر كلام الناظم أنه لا فرق في هذه الثيب بين أن تكون ثيبت بوطء هذا المخالع لها أو بوطء غيره قبله، وأما المجبرة المتقدمة فإنه إذا بنى بها الزوج صارت ثيباً فلابد من إذنها إلا أن تكون غير بالغة كما مرّ. وتقدم في البيت قبله أنه لا يجوز له العفو بعد البناء لأنها استحقته بالمسيس إلا أن يقال: إن الخلع هنا ليس عفواً لأنه لما يترقب من سوء العشرة، وفي المدونة إن خالع عنها بجميع الصداق بعد البناء قبل البلوغ جاز.
تنبيهات:
الأول: سكت الناظم عن المهملة التي لا وصي عليها ولا مقدم. وفي مضي خلعها أن خالعته خلع أمثالها قولان. عمل بكل منهما كما في المتيطية. قال الرجراجي: المشهور أن خلعها لا يجوز، وقال في الفائق: المعمول به أنه لا يجوز من فعل المهملة شيء حتى يتم لها مع زوجها العام ونحوه. اهـ. بنقل الشيخ بناني، وظاهر ذلك ولو خالعت بخلع أمثالها. واقتصر ابن سلمون على العمل بالمضي، وعزاه لابن القاسم وسحنون وكذا الفشتالي وصاحب الطرر فيفهم منهم أنه الراجح، ولاسيما وهو قول ابن القاسم وسحنون. وقد قال الشيخ طفي في باب الزكاة عند قول المتن والقراض الحاضر إلخ. أنه اشتهر عند الشيوخ أنه لا يعدل عن قول ابن القاسم مع سحنون إذا اجتمعا، وظاهر هذا النقل أن ذلك ماض ولو خالعته قبل مضي عام من دخولها ولو معلومة السفه، وسيأتي عن البرزلي ما يبين لك وجه ذلك، لكنه لا يتم في معلومة السفه على ما به العمل الآن من أن العبرة بالحال لا الولاية وما مرّ عن ابن سلمون والطرر والفشتالي من العمل المذكور إنما هو في زمانهم من أن المهمل تمضي أفعاله، وأن العبرة بالولاية لا الحال كما يفيده. نقل ابن عرفة فقف عليه، وقد علمت أن العمل ليس على ذلك الآن فلا تغتر بذلك. وانظر أيضاً لو خالعت بأكثر من خلع مثلها على ما لابن سلمون ومن معه هل يرد الزائد فقط وهو الظاهر أو يرد الجميع وهو ما يفيده؟ نقل ابن عرفة. وكذا لو خالع الأب أو الوصي بأكثر من خلع المثل فإنها ترجع على الزوج أو على الأب إن أعدم الزوج بالزائد فقط فيما يظهر لأنه القدر الذي فوت عليها ولا يقال يلزم من كون الخلع نظراً أن يكون بخلع المثل. لأنا نقول قد يكون الخلع نظراً في نفسه لأن النظر فيه مصروف لما يترقب من الزوج من سوء العشرة، ولكنه أكثر من خلع المثل فتأمله. وذكر ابن رحال هاهنا أن ظاهر كلامهم جوازه من الأب ولو بأكثر من خلع المثل. اهـ.
الثاني: قال ابن سلمون: ذكر ابن سعدون في شرح المدونة أن الزوج إذا شرط في خلع من تقدم أنه إن لم يصح له الخلع على ما وقع فالعصمة باقية إن شرطه ذلك ينفعه، ومتى طلب منه ما أخذ كانت له زوجة كما كانت. اهـ. ومثله في الطرر والبرزلي وابن سلمون واعترضه (ح) بأنه خلاف المذهب، وفي المدونة وإن أعطته شيئاً على أن يطلق ويشترط الرجعة أو خالعها وشرط أنها إن طلبت شيئاً عادت زوجة فشرطه باطل والخلع يلزمه ولا رجعة له إلا بنكاح مبتدأ. اهـ. هذا إذا لم يكن معلقاً ابتداء وإلاَّ فينفعه كما لو قال لصغيرة أو سفيهة أو ذات رق إن صحت براءتك فأنت طالق بعد قولها أبرأتك فلا يقع عليه الطلاق حتى يجيز وليها ذلك.
الثالث: محل الخلاف في قول (خ) وفي خلع الأب عن السفيهة خلاف إنما هو في خلعه عنها بغير إذنها لأن أحد المشهورين يقول: لا يجوز إلا بإذنها والآخر يقول بالجواز مطلقاً فقد اتفقا على جوازه مع الإذن، وحينئذ فقول الناظم بعد الإذن له ليس هو أحد المشهورين في كلام (خ) بل محل اتفاق منهما فمنطوق الناظم يتفق عليه المشهوران معاً، ومفهومه فيه الخلاف المذكور، لكن المعمول به عدم المضي فقول ابن رحال هاهنا: الراجح من الخلاف جواز خلع الأب عنها استقلالاً إلخ. خلاف المعمول به.
الرابع: رجح البرزلي كما في المواق أن من فعل فعلاً لو كان رفع إلى القاضي لم يفعل غيره، فإنه يكون كأن القاضي فعله إلخ. فيقتضي بظاهره أن الصغير والسفيهة ذواتا المقدم، بل والمهملة إذا خالعن خلع أمثالهن، وكان إيقاع الخلع أحسن لهن أن يمضي ذلك لأنهن لو رفعن أمرهن إلى القاضي لم يفعل غير ذلك، وهذا وإن كان قولاً قوياً في المذهب كما تقدم عن ابن سلمون في المهملة وقال مثله ابن القاسم في الصغيرة كما في المواق وضيح زاد في ضيح قيل: وبه العمل قال: ويلزم على قول ابن القاسم في الصغيرة أن يمضي خلع السفيهة بذلك ولو مولى عليها إلخ. لكنه خلاف المذهب المعتمد من نفوذ الخلع ووجوب رد المال كما مر فلا تغتر بشيء من ذلك والله أعلم.
الخامس: لما نقل ابن عرفة قول المتيطي وابن فتحون للمحجورة أن تخالع بإذن أبيها أو وصيها وتقول بعد إذنه لما رآه من الغبطة قال: فالأرجح عقده على الوصي برضاها لا عليها بإذنه خلاف قصره بعضهم عليها بإذن الوصي اتباعاً منه للفظ الموثقين وأظنه لعدم ذكره قول ابن القاسم فيها وعليه لو بارأ غير الأب عن البكر فقال في اختصار الواضحة: الطلاق نافذ ويرجع الزوج بما يرده للزوجة على من بارأه عنها وإن لم يشترط ضمانه لأنه المتولي وضعه عنه اه بلفظه. وعبارة المتيطية: فإن كانت الزوجة محجوراً عليها لأب أو وصي قلت في مخالعتها على أن أسقطت فلانة أو التزمت له بإذن أبيها كذا وكذا لما رأى في ذلك من الغبطة لها والحيطة عليها. اهـ. ونحوه في ابن سلمون وقول ابن عرفة وعليه لو بارأ غير الأب إلخ. هو أحد أقوال ذكرها ابن سلمون فقال: فإن عقد على اليتيمة أو غيرها ولي أو أجنبي فلها الرجوع على زوجها والطلاق ماض. وهل يرجع الزوج على الذي عقد معه الخلع إذا لم يضمن ذلك؟ فقيل: يرجع وإن لم يضمن لأنه هو الذي أدخله في الطلاق، وهذا لابن القاسم. وروايته عن مالك في كتاب الصلح من المدونة. وقول أصبغ في الواضحة والعتبية: وقد تقدم نقل كلامه عند قوله: وإن تكن قد خالعت وأثبتت أضراره إلخ. وعلى ما لابن عرفة من كون الراجح عقده على الوصي برضاها يكون الراجح من تلك الأقوال هو الرجوع كما يدل عليه قوله: وعليه إلخ.
وَامْتَنَعَ الخُلْعُ على المَحْجُورِ ** إلاّ بِإذْنِهِ على المَشْهُورِ

(وامتنع الخلع) فعل وفاعل (على المحجور) يتعلق بالخلع (إلا) استثناء (بإذنه) يتعلق بالخلع أيضاً أي امتنع الخلع على المحجور الذكر البالغ بكل وجه من الوجوه إلا بإذنه فيجوز حينئذ لوليه أن يخالع عنه ولو مقدماً من قاض (على المشهور) ومقابله قول ابن القاسم في الجنايات أنه يجوز لوصيه أن يخالع عنه بغير أمره.
وَالْخُلْعُ جائِزٌ على الأَصاغِرِ ** مَعْ أَخْذِ شَيْءٍ لأَبٍ أَوْ حاجِرِ

(والخلع) مبتدأ (جائز) خبره (على الأصاغر) يتعلق بالخلع (مع) بسكون العين ظرف مضاف لقوله (أخذ شيء) وقوله (لأب أو حاجر) يتعلق بالخبر المذكور أي: والخلع على الأولاد الأصاغر جائز لأب أو حاجر مع أخذ شيء من الزوجة أو وليها. وهذا إذا كان على وجه النظر كما في ضيح، وإنما أسقط المصنف هذا لأنه معلوم أن الولي لا يمضي تصرفه على المولى عليه إلا بالنظر. ابن ناجي: ظاهرها أنه لا يجوز خلعه عنه إلا بشرطين النظر مع الأخذ أما إن رآه نظراً دون أخذ فلا. قال: ورأيت شيخنا أبا العباس بن حيدرة حكم بمطلق النظر دون أخذ، وبه أقول وهو نص اللخمي اه باختصار. ويشمل قوله: أو حاجر خلع السيد عن عبده الصغير. ابن فتوح وابن فتحون: يجوز للأب ووصيه والسلطان وخليفته المباراة على الصغير بشيء يسقط عنه أو يؤخذ له لا غير ذلك. وكذا السيد في عبده الصغير. ابن عرفة: هذا خلاف قول اللخمي يجوز أن يطلق على السفيه البالغ والصغير بغير شيء يؤخذ له، لأنه قد يكون بقاء العصمة مبدياً لأمر جهل قبل إنكاحه أو حدث بعده من كون الزوجة غير محمودة الطريق أو متلفة ماله. اهـ. وعلى الأول عول (خ) حيث قال: وموجبه زوج مكلف ولو سفيهاً وولي صغير أباً أو سيداً أو غيرهما لا أب سفيه وسيد بالغ إلخ. وبه تعلم أن ما للخمي، واختاره ابن ناجي مقابل لما في النظم، وتعلم أيضاً أن قول ابن سلمون لا يجوز طلاق الأب والوصي على الصغير إلا بشيء يأخذانه له بلا خلاف لا يصح كما مر.
تنبيه:
يؤخذ من قول الناظم إلا بإذنه أن السفيه يستقل بالخلع لأن المدار على إذنه ولأن الطلاق بيده وهو كذلك كما مرّ عن (خ) ويبقى النظر هل يبرأ المختلع بتسليم المال إليه أم لا؟ وهل إذا خالع بأقل من خلع المثل يكمل له أم لا. والمذهب أنه لا يبرأ إلا بتسليمه لوليه، وأنه يكمل له إن خالع بأقل من خلع المثل كما لابن شاس واللخمي، ورجحه ابن رحال في شرحه لأنه بنفس العقد يكمله ويصير مالاً من أمواله فكيف يبرأ دافعه بدفعه للسفيه المبذر له. ولأنه معاوضة بدليل أنه يكمل له خلع المثل إن خالع بأقل، ولو كان كالهبة كما قال ابن عرفة: إنه ظاهر الموثقين ما كمل له خلع المثل فانظره.
قلت: وانظر إذا خالع ولي الصغير عنه بأقل من خلع المثل هل يكمل له أو يبطل الطلاق من أصله، والظاهر الأول لأن حق الصغير لم يبق إلا في التكميل. نعم إذا كان الطلاق عليه من أصله غير نظر، فلا يمضي عليه حينئذ فالنظر لابد منه على هذا في الطلاق والخلع معاً، وقد يوجد في أحدهما دون الآخر.
وَمَنْ يُطَلِّقْ زَوْجَةً وَتَخْتَلعْ ** بِوَلدٍ مِنْهُ لَهُ وَيَرْتَجِعْ

(ومن يطلق) شرط وفعله (زوجة) مفعوله (وتختلع) بالجزم عطف على فعل الشرط (بولد منه) يتعلقان بتختلع وليس المجرور الثاني صفة للأول، بل هو مقدم عليه في التقدير (له) صفة لولد فصل بينه وبين موصوفه بأجنبي (ويرتجع) معطوف على تختلع.
ثُم يُطَلِّقْها فحُكْمُ الشَّرْعِ ** أَنْ لا يَعُودَ حُكْمُ ذاك الخُلْعِ

(ثم يطلقها) معطوف عليه أيضاً (فحكم) مبتدأ (الشرع) مضاف إليه (أن لا يعود) منصوب بأن (حكم) فاعل والجملة في تأويل مصدر خبر المبتدأ أي فحكم الشرع عدم عود حكم (ذاك الخلع). والجملة من المبتدأ والخبر جواب الشرط، وأشار بهذين البيتين إلى ما في أجوبة ابن رشد رحمه الله، وذلك أنه سأله أهل بطليوس عمن خالع امرأته على أن تحملت بنفقة ابنه منها إلى الحلم، ثم راجعها بنكاح جديد، ثم طلقها هل يسقط عن الزوجة ما تحملته بمراجعته إياها أم لا؟ وكيف إن طلبه بما تحملته وهي في عصمته بالمراجعة التي راجعها هل يقضي بذلك أم لا؟ فأجاب: إذا راجعها سقط عنها ما تحملته من نفقة ابنه ورجعت النفقة عليه ولا تعود عليها إن طلقها ولم تتحمل له بها ثانية وبالله التوفيق. ونقله ابن عات وغيره بالمعنى وبحث فيه (ح) في التزاماته فقال لم يظهر لي وجه سقوط النفقة عنها بمراجعته إياها إلا أن يكون فهم عنها أنها إنما التزمت النفقة على الولد ما لم تكن في عصمة الزوج. اهـ. قال أبو العباس الملوي: وذلك لأنه حق للولد فلا يسقط بمراجعة أبيه أمه قال: ولكن في فائق الونشريسي ما ينتج منه دفع هذا البحث لأن الالتزام في الحقيقة حق للزوج لا للولد. اهـ. من خطه.
قلت: الظاهر عدم دفع البحث المذكور لأن الالتزام وإن كان حقاً للزوج لا للولد لا يسقط عنها إلا بمسقط ولم يوجد، وأيضاً فإن الصبي قد يكون له مال فالحق حينئذ للولد لأن النفقة ساقطة عن أبيه، وقد يكون لا مال له فالحق حينئذ للزوج لكنه لم يسقط.
وَإنْ تَمُتْ ذَاتُ اخْتِلاعٍ وُقِفَا ** مِنَ مَالِها ما فيهِ لِلدَّيْنِ وَفَا

(وإن تمت) شرط (ذات) فاعل (اختلاع) مضاف إليه (وقفا) بالبناء للمفعول جواب الشرط (من مالها) يتعلق بوقفا (ما) موصول نائب الفاعل (فيه) خبر مقدم (للدين) يتعلق بالاستقرار في الخبر المذكور (وفا) مبتدأ مؤخر والجملة صلة ما.
لِلأَمَدِ الّذِي إليْهِ التُزِمَا ** وَهْوَ مُشَارِكٌ بِهِ لِلغُرَمَا

(للأمد) يتعلق بوقفا أو بوفا واللام للغاية بمعنى إلى (الذي) نعت للأمد (إليه) يتعلق بقوله: (التزما) بالبناء للمفعول ونائبه ضمير الإنفاق المفهوم من السياق والجملة صلة (فهو) مبتدأ عائد على الأب (مشارك) خبره (به للغرما) يتعلقان به والضمير المجرور عائد على الدين، والجملة من المبتدأ والخبر جواب عن سؤال مقدر فكأن قائلاً قال له: وإن كانت عليها ديون فهل يحاصص به؟ فقال: نعم فهو مشارك إلخ. والمعنى أنه إذا خالعها على أن تحملت له بنفقة ولدها أو غير مدة معلومة كخمس عشرة سنة أو إلى البلوغ ونحو ذلك. ثم ماتت في أثناء المدة فإنه يوقف من مالها قدر مؤنة الابن إلى انقضاء المدة التي التزمتها فإن كان عليها ديون غير ما التزمته فإن للزوج محاصة غرمائها بما التزمته من نفقة ولده بأن يقال ما قدر ما يفي بنفقته في المدة الباقية، فيقال: كذا ويحاصص به مع أرباب الديون، وفهم من قوله: وقفاً أنه يوضع عند أمين ولا يدفع للأب وهو كذلك لأن الولد إذا مات بعد ذلك فإن الباقي مما وقف يرجع ميراثاً لورثتها أو لأرباب الديون إن بقي لهم شيء من ديونهم كما في الوثائق المجموعة وابن سلمون وغيرهما. ومفهوم قوله: وإن تمت أنها إذا لم تمت بل مات الولد أنه لا شيء للأب وهو كذلك كما مرّ في قوله: وليس للأب إذا مات الولد شيء إلخ. وقولي مدة معلومة احترازاً من المجهولة بأن لا يضربا لذلك أجلاً أصلاً أو يضربا لذلك أجلاً مجهولاً كقدوم زيد أو يسر الأب فإن ذلك لا يجوز كما صرّح به ابن رحال في شرحه، وهو ظاهر لكثرة الغرر، لكن يبقى النظر إذا وقع ونزل ولا يخفى أن الطلاق نافذ ولا إشكال، وتقدم ما يجب في ذلك عند قوله: وليس للأب إلخ. وعند قوله: والخلع بالإنفاق محدود الأجل إلخ. ثم لا يخفى أن ما ذكره الناظم في هذين البيتين وفي اللذين قبلهما مفرع على قول المخزومي ومن معه بجواز الخلع بالنفقة الزائدة على الحولين، وحينئذ فكان اللائق أن يقدم هذه الأبيات الأربعة ويجعلها بعد قوله: وجاز قولاً واحداً الخ، كما مر التنبيه عليه.
وَمَوْقِعُ الثَّلاثِ في الخُلْع ثَبَتْ ** طَلاقُهُ وَالخُلْعُ رُدَّ إنْ أَبَتْ

(وموقع الثلاث) مبتدأ ومضاف إليه (في الخلع) يتعلق بالمبتدأ (ثبت طلاقه) فعل وفاعل خبر المبتدأ (والخلع) مبتدأ (رد) بضم الراء مبنياً للمفعول خبر المبتدأ، ويجوز قراءته بكسر الراء على أنه مصدر بمعنى المفعول، فالخبر حينئذ مفرد لا جملة (إن أبت) شرط حذف جوابه للعلم به فقوله: أبت يحتمل أنه من الإباية، والمعنى عليه أنها إذا أعطته ديناراً مثلاً ليطلقها واحدة أو ليطلقها وأطلقت فطلقها ثلاثاً، فإن الطلاق واقع والخلع مردود حيث لم ترض بالثلاث قاله ابن سلمون. واستظهره ابن عرفة وابن رشد قائلين لأنه بطلاقه إياها ثلاثاً يعيبها لامتناع كثير من الناس من تزوجها خوف جعلها إياه محللاً فتسيء عشرته ليطلقها فتحل للأول، لكن قال ابن رحال في شرحه ما في ابن سلمون خلاف ظاهرها. وقال في حاشيته: هاهنا يحتمل أن يكون قوله أبت من البتات الذي هو القطع وضميره للزوج لا من الإباية التي هي الامتناع وضميره للزوجة، ويكون حينئذ أشار إلى مضمون قول (خ) إن قال: إن خالعتك فأنت طالق ثلاثاً. وعليه فقول الناظم في الخلع يتعلق بمحذوف أي في التعليق على الخلع. اهـ.
وبالجملة فالمسائل ثلاث:
الأولى: أن تقول طلقني بألف مثلاً فيطلقها ثلاثاً وهذه هي التي في النظم وهو تابع في ذلك لابن سلمون واستظهار ابن راشد وابن عرفة والذي في (خ) وهو ظاهر المدونة أو نصها على ما في ضيح أن ذلك لازم لها.
الثانية: عكس ما في النظم وهي أن تقول له طلقني ثلاثاً بألف فيطلقها واحدة فإن الألف لازم لها أيضاً لأن المدار على البينونة وهي حاصلة بالواحدة فلا فائدة لاشتراطها الثلاث وبحث فيه ابن عرفة وأبو الحسن وابن عبد السلام: بأن الشرط المذكور قد يكون مفيداً لأن مقصودها بإعطاء العوض البعد منه على أتم الوجوه بحيث لا يبقى له فيها طلب، وذلك إنما يحصل بالثلاث، وأما الواحدة فقد يتوصل إلى مراجعتها بشفيع لا يمكنها رده. اهـ. وإلى مسألة الناظم وعكسها أشار (ح) عاطفاً على ما يلزم فيه العوض بقوله: أو طلقني ثلاثاً بألف فطلقها واحدة أو بالعكس.
الثالثة: أن يعلق الثلاث على الخلع وهي التي أشار لها (خ) عاطفاً على ما يرد فيه العوض بقوله أو قال إن خالعتك فأنت طالق ثلاثاً فإنه إذا خالعها وقعت الثلاث مصاحبة لخلعه لأن الشرط والمشروط يقعان دفعة واحدة ضرورة اقتران المشروط مع جزء شرطه في الوجود، كما للوانوغي فلم يصادفها الخلع وهي زوجة فوجب رد المال، ولما كان كلام الناظم وابن سلمون مخالفاً لما في (خ) وظاهر المدونة أو نصها أوله ابن رحال بما مر على هذه المسألة الثالثة وإن كان ذلك بعيداً من لفظهما.
تنبيه:
ما ذكره (خ) في المسألة الثالثة هو مذهب ابن القاسم، وذكر ابن رشد عن أشهب أن الزوج لا يرد الخلع قال: وهو المختار والصحيح في النظر والقياس إذ لا يكون المشروط إلا تابعاً لشرطه، فإذا كانت المصالحة سابقة للطلاق صحت ومضت ولم يرد الزوج ما أخذ فيها وبطل الطلاق المعلق عليها واحداً كان أو ثلاثاً لوقوعه بعد الصلح في غير زوجة. اهـ.
قلت: تأمل قوله وهو المختار، والصحيح في النظر إلخ. فإنه لا يجري على ما قالوه من وجهين أحدهما أنهم قالوا في المسألة السريجية وهي إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً أن الشرط والمشروط يقعان دفعة واحدة، وجعلوها من المسائل التي ينقض فيها حكم الحاكم. وقوله: إن المشروط تابع لشرطه يوجب عدم وقوع الثلاث فيها وهو خلاف ما قالوه. ثانيهما: إن قوله وبطل الطلاق إلخ. مخالف للمشهور ومذهب المدونة من أنه إذا اتبع الخلع طلاقاً من غير صمات نسقاً لزم وارتدف كما لو نسقه في غير المدخول بها، فهو وإن سلمنا أن المشروط تابع لشرطه كما قال لزم أن يقع الثلاث على المشهور لوقوعها متصلة بالخلع فهو قد اختار وصحح رحمه الله المقابل في الصورتين، وذلك على عادته في كونه يختار خلاف المذهب لرجحانه عنده فلا اعتراض عليه، ومثله وقع له فيمن أعتق أم ولده على أن سلمت له ولده الصغير منها فقال ابن القاسم: ذلك لا يجوز ويرد الولد إليها أي والعتق ماض، وقال مرة: ذلك لازم لها فقال ابن رشد: الأصل في هذا أنه رأى الإسقاط مقدماً على العتق، ومرة رأى العتق مقدماً على الإسقاط فألزمها إياه والأظهر أنه يلزمها لأنهما إذا وقعا معاً فقد وقع واحد منهما قبل كمال صاحبه. اهـ. على نقل ابن عات، فاستظهاره وتعليله رحمه الله في هذه موافق لاختياره وتعليله في الأولى. وقال أيضاً في بيانه: لأن الطلاق والعتق لا يقع في الصحيح من الأقوال بنفس تمام اللفظ به، وإنما يقع بعد مهلة يتعذر فيها وذلك بين من قولها والذي يقول لامرأته قبل الدخول أنت طالق أنت طالق أنت طالق في نسق أنه يلزمه الثلاث، إذ لو كان الطلاق يقع بتمام اللفظ به لم يلزمه إلا طلقة واحدة. اهـ. وقال في تكميل المنهج:
هل يقع الشرط مع المشروط في ** مرة أو مرتين فاقتفي

تعليقه الثلاث بالخلع لذا ** كذلك العتق ببيع نفذا

فانظر تمامه. وقوله كذلك العتق هو قول (خ) في العتق وعتق على البائع إن علق هو والمشتري إلخ. وانظر قواعد القرافي أيضاً.